الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال البقاعي:ولما أعلى سبحانه أولياءه بأن فتح السورة بالإيمان بالغيب وهو العزيز الحكيم بعد التنزيه عن نقائص التعطيل وكل شائبة نقص وينزل لعباده في أسباب الصفات والأفعال إلى أن أوصلهم إلى محسوس الأمثال فتأهلوا للفناء في ذاته وما على صفاته الموجبة لخشيته، رقاهم إلى التفكر في تفصيل ما افتتح به، فقال عادلًا عن أسلوب العظمة إلى أعظم منها بإسبال حجب العزة على منهاج الحكمة: {هو} أي الذي وجوده من ذاته فلا عدم له أصلًا بوجه من الوجوه، فلا يستحق الوصف ب {هو} غيره لأنه الموجود دائمًا أزلًا وأبدًا، فهو حاضر في كل ضمير غائب بعظمته عن كل حس، فلذلك يتصدع الجبل من خشيته.ولما عبر بأخص أسمائه، أخبر عنه لطفًا بنا وتنزلًا لنا بأشهرها الذي هو مسمّي الأسماء كلها فقال: {الله} أي المعبود الذي لا ينبغي العبادة إلا له، الذي بطن بما لم تحط ولا تحيط به العقول من نعوت الكبرياء والعظمة والإكرام، فظهر بأفعاله التي لا تضاهى بوجه غاية الظهور، فتميز غاية التميز، فلم يلحقه شرك أصلًا في أمة من الأمم ولا نسمة من النسم، قال الحرالي في شرح الأسماء: وهو لوه القلوب والعقول أي محارها الذي لا تدركه، فلزم الخلق من توحيد اسم الإله ما حصل لهم من توحيد اسم الله من الأحدية الإحاطية- انتهى- فلذلك كان وصفه {الذي لا إله إلا هو} فإنه لا مجانس له ولا يليق ولا يصبح ولا يتصور أن يكافئه أو يدانيه شيء والإله أول اسم الله فلذلك- لا يكون أحدًا مسلمًا إلا بتوحيده فتوحيده فرض وهو أساس كل فريضة، وتوحيد سائر الأسماء نقل وهو أساس كل نافلة، فمن وحد في الكل فقد كمل دينه وتمت النعمة عليه وإلا كان من الذين آمنوا، فإن كان ذلك منه قولا عصم من نار الأحكام على الأبدان في الدنيا، وإن كان علمًا تخلص من نار الهلع على النفوس في الدنيا، وهو الجزع عند مس الشر، والمنع والبخل عند مس الخير، ولن يشهد التوحيد في هذه الكلمة التي مضمونها توحيد اسم الإله إحسانًا إلا بعد إحصاء جميع الأسماء علمًا، قال الحرالي: والإله: التعبد وهو التذلل، فمن توهم حاجته بشيء وتوهم أن عنده قوام حاجته تذلل فكان تذلله له تألهًا، وكل من عبد ما أحاط عينه فقد خذل عقله عن تصحيح معنى الإله الذي يجب أن يكون غيبًا، فكان تصحيح معنى الإله أنه غيب قائم مستحق للعبادة والتذلل لأجل قيامه والاستغناء به.ولما أخبر بتفرده، دل عليه بآية استحقاقه لذلك، فقال مقدمًا لما هو متقدم في الوجود: {عالم الغيب} أي الذي غاب عن علم جميع خلقه.ولما كنا ربما ظن أن وصفه بالغيب أمر نسبي سمي غيبًا بالنسبة لناس دون ناس، دل بذكر الضد على أن المراد كل ما غاب وكل ما شهد فقال تعالى: {والشهادة} أي الذي وجد فكان بحيث يحسه ويطلع عليه بعض خلقه.ولما تعالى في صفات العظمة ونعوت الجلال والكبر فبطن غاية البطون، أخذ رحمة العبادة بالتنزيل لهم بالتعرف إليهم بعواطف الرحمة فقال بانيًا الكلام على الضمير إعلامًا بأن المحدث عنه أولًا هو بعينه المحدث عنه ثانيًا: {هو الرحمن} أي العام الرحمة، قال الحرالي رحمه الله تعالى: والرحمة إجراء الخلق على ما يوافق حسبهم ويلائم خلقهم وخلقهم ومقصد أفئدتهم، فإذا اختص ذلك بالبعض كان رحيمية، وإذا استغرق كان رحمانية، ولاستغراق معنى اسم الرحمن لم يكن لإتمام في معنى استغراقه- يعني باسم الله.ولما كانت الرحيمية خاصة بما ترضاه الإلهية قال تعالى: {الرحيم} أي ذو الرحمة العامة المسعدة في الظاهر والرحمة الخاصة المسعدة في الباطن، قال الحرالي: الرحمة من الرحيم اختصاص من شملته الرحمانية بمزية ما أوثر به من الرحمة في مقابلة من آل أمره إلى نعمه ليجمع مقتضى الاسمين بين عموم الرحمانية واختصاص الرحيمية: ولما أظهر على الخلق خصوص الإيثار، أجرى عليهم اسم الرحيم كرحمة الخلق أبناءهم.ولما كان حق اسم الرحيم إثبات رحمة غير مجذوذة ولم يكن ذلك للخلق لم يكن بالحقيقة الرحيم إلا الله الذي إذا اختص بالرحمة لم يحدها {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} [البقرة: 256] «إن الله لا ينزع العلم انتزاعًا بعد أن أعطاكموه» {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ} [هود: 108] فلذلك لا رحيم بالحقيقة إلا الله تحقيق علم كما أنه لا رحمان إلا الله بادي معنى.ولما كان الملك كمال استيلاء على الخلق يقصرهم به ملكهم على بعض مستطاعهم ويدينهم- أي يجيزهم- على حسب دينهم أي ما وضع لهم من عادة قصره لهم وحكمه عليهم وبحسب إحصائه عليهم دقيق أعمالهم وإحاطته بخفي أحوالهم والاطلاع على سرائرهم بتحقيق استيفاء الجزاء فيتحقق بذلك كمال الملك، فكان لذلك لا تتحقق حقيقة الملك فيمن هو دون العلم بالسر وأخفى، والمحصي الحسيب لمثاقيل الدر، الخبير بخبأ الكون، فكان لا ملك في الحقيقة إلا الله، ولكنه تعالى لما كان قد أولى الخلق من رفعه بعضهم فوق بعض ما أجرى عليهم اسم الملك فتنة لهم فضل بسبب ذلك قوم ادعوا الملك الحقيقي، فغلط من أراد الله من الخلق فيهم فضلوا بهم، أعاد التهليل مع اسمه الملك كما ابتدأ مع اسمه الإله أول أسماء الله، ولذلك أيضًا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه الشيخان وأبو داود والترمذى في حديث الذي يسمى ملك الملوك في رواية المسلم: «لا ملك إلا الله»، فقال مصرحًا بما في باطن اسمي الرحمة من القهر والجبر على النسق الأول في البناء على الضمير تأكيدًا لتعين المحدث عنه وتوحيده: {هو الله} أي الذي لا يقدر على تعميم الرحمة لمن أراد وتخصيصها بمن شاء {الذي لا إله} أي معبود بحق {إلا هو الملك} فلا ملك في الحقيقة إلا هو لأنه لا يحتاج إلى شيء، فإنه مهما أراد كان.ولما كان الملك أصل ما لحق الخلق من الآفات لأنه رأس الشرف الذي هو باب الترف الملازم لمخالفة كتاب الله أما في الأعمال فيكون فتنة، وأما في الرأي فيكون علوًا وكبرًا وكفرًا، فإن أمر الله في آدم على ماهو نبوة ثم ينزل فيصير خلافة ثم ينتهي نزوله فيكون ملكًا ثم تتداعى الأحداث، فلمكان تداعي الملك لموجبات الذم قال عقب صفات الملك: {القدوس} مصرحًا بما لزم عن تمام ملكه من أنه بليغ في النزاهة عن كل وصم يدركه حسن أو يتصوره خيال أو يسبق إليه وهم أيو يختلج به ضمير، فإن القدس طهر لا يقبل التغير ولا يلحقه رجس فلا يزال على وصف الحمد بثبات القدس، ولمكان ما حوّل سبحانه الخلق من حال طهر لا يظهر فيه تغير بما دونه أجرى عليهم اسم القدس كروح القدس المؤيد للشارع ينفث في روعة المؤيد لشاعره في مكافحته عنه، ولأجل قصر تخلي الخالق بالملك في قليل متاع الدنيا رغب النبي العبد صلى الله عليه وسلم عنه، واختار العبودية الدائمة بدوام العزة لسيده، فوضح بذلك علم أن لا قدوس إلا الله حقيقة معنى وتصحيح إحاطة.ولما كان سبحانه لتمام ملكه وعلو ملكه وكمال قدسه لا يتصور أن يلحقه نقص في ذات ولا صفة ولا فعل، فلا يقبح منه إهلاك على حال من الأحوال ولا مس بضر في الدنيا والآخرة في وقت من الأوقات لأنه سبحانه، لعلمه بالظواهر والبواطن على حد سواء، يصنع الأمور في أحكم مواضعها بما لا يدركه غيره أصلًا أو لا يدركه حق إدراكه فاحتيج إلى ما يؤمن من ذلك، وكان السلام حد ما بين الألفة والفرقة وحد ما بين الرحمة والسطوة وهو أدنى منال الجاهل من عباد الرحمان، ومنال المعتدي من المقتدر، وكان سلام المسلم للجاهل مداراة لئلا يزيد في جهله عليه، أو ارتقابًا لاستقبال مكنة، وكان الله لا يعبأ بالخلق ولا يحتاج لارتقاب مكنة لأنه لا يعجزه شيء فلم يتحقق السلام بكل معنى من وجود السلامة له وإفاضتها على غيره تمامًا إلا منه إعفاء من معاجلة استحقاق السطوة وحفيظة لحرمة اختصاص الرحمة، أتبع ذلك مؤمنًا للعاصي من المعاجلة وللمطيع من سوء المعاملة قوله: {السلام} لأنه حد ما بينهما ظاهرًا، ولذلك أردفه بما يتعلق بالباطن لتحصل إحاطة السلامة ظاهرًا وباطنًا فقال: {المؤمن} لأن الأمن حد ما بين المحبة والكره فيمن لا وسيلة له للحب وهو أدنى ما يقبله ذو الحق ممن يستحق منه الحب، ولذلك لم يقبل الحق ممن كان ظاهر الوسيلة للحب- إلا بالحب فلم يثبت إيمان المؤمن بمجرد الإيمان حبًا له بل إيثارًا لمحبته على كل حب ومساواة لأخيه المؤمن فيما يحب لنفسه، وأدناه الأمنة في الغيب من الغيبة والعيب إلى غاية الأمان من بوائق الغشم والظلم من الجار المستحق حفظ جاره في غيبه، فالإحلال بالإيمان لكونه الأمنة في الغيب نفاق، والإخلال بالإسلام لكونه السلم في المواجهة إحرام، فبأدنى إخلال في جانب الحق أو الخلق ينثلم الإسلام والإيمان، وذلك كله إنما هو في الحقيقة من الله تعالى فهو الذي يعزى إليه الأمن والأمان بإفادته أسبابه ومنع أسباب المخاوف فلا أمن في الوجود ولا أمان إلا وهو مستفاد من جهته.ولما كان الاطلاع على بيّن ما ذكر ليتحقق معنى السلم والأمن، وعلى كل من تلك الحدود خفيًا جدًا يفتقر إلى مزيد علم، قال: {المهيمن} فإن الهيمنة شهادة خبرة وإحاطة وإبصار لكلية ظاهر الأمر وباطنه بحيث لا يخفى منه خافية هوية ولا بادية ظاهر، ولإحاطة معناه لا يكاد يقع له في الخلق مسوغ إطلاق إلا مسامحة لأن الخلق لا يشهدون إلا الظواهر ولا يشهدون من الباطن، ولذلك انعجم معناه على كثير من فصحاء العرب، فمفهوم معناه موجب توحيده فواضح إذ لا مهيمن بمعنى أنه شهيد على الوجه المشروح مع الأمانة المأمونة والحفظ والرعاية فيكون قائمًا على كل شيء بكل ما له من رزق وعمل وأجل إلا هو، ولذلك كان القرآن الذي هو صفته سبحانه وتعالى مهيمنًا على جميع الكتب التي قبله مصدقًا لما يستحق التصديق منها مكذبًا لما يستحق التكذيب، فمن كان به أمهر كان بذلك أعلم.ولما كان تمام الخبرة ملزومًا لتمام القدرة، صرح بها اللازم فقال؛ {العزيز} والعزة غلبة لا يجد معها المغلوب وجه مدافعة وجه مدافعة ولا انفلات ولا إعجاز، فالعزيز الذي صعب على طالبه إدراكه مع افتقار كل شيء إليه في كل لحظة، الشديد في انتقامه الذي لا معجز له في إنفاذ حكمه، ولذلك ينظم كثير بآيات إمضاء الأحكام متصلًا بالحكمة والعلم إنباء عن العدل، قال الغزالي: وهو الذي يقل وجود مثله وتشتد الحاجة إليه ويصعب الوصول إليه.ولما كان المغلوب على الشيء فيؤخذ من يده قد لا ينقاد باطنًا فلا يباشر ما غلب عليه للغالب وقد لا يكون العز ظاهرًا لكل أحد، أردفه بقوله: {الجبار} وهو العظيم الذي يفوت المقاوم مناله، فهو على هذا من أسماء الذات ويصلح أمور من يريد من الخلق ويقهرهم على ما يريد، فهم أحقر من أن يعصوه طرفة عين بغير إرادته، والجبر: طول يلجيء الأدنى لما يريد منه الأعلى ويغيب من الأعلى ما يحاول مناله منه الأدنى مع الظهور التام الذي تدور مادته عليه، فالجبار لا يخرج شيء من قبضته، وتقصر الأيدي عن حمى عز حصرته، ولا ينال منه إلا ما نوّل، وهو أبعد شيء عن أوصاف الخلق لمنال الذباب منهم منا شاء وعجزهم عنه، ولما فيه من الإلجاء كان هو الاسم الذي يجليء النار لقصرها على مراده منها من الحسب الذي جبلها على ضده من الاستزادة فلا تزال تقول ما جبلت عليه: هل من مزيد، حتى يضع الجبار فيها قدمه أي يهينها فإن القدم موضع الإهانة، وهذه الإهانة- هي من مبدأ ظهور غلبة الرحمة للغضب، فله الملك ظهورًا بالأيدي الظاهرة من الإنسان وما دونه، وله الملكوت بطونًا بالأيدي الباطنة من الملك وما دونه، ولو الجبروت اختصاصًا من وراء كل ملك وملكوت.ولما كان الإلجاء قد يكون بنوع ملاطفة، أتبعه قوله: {المتكبر} ليعم الإلجاء الظاهر والباطن فالكبرياء جملة تأدي أمر الله وظاهر خلقه الذي يجد الخلق صغرهم من دونه وكبره عليهم وامتناعه عما لا يريد من مرادهم، لأن الكل حقيرون بالإضافة إلى جلاله وعز جبروته وعظمته وكماله، ولسواء الخلق في عام حضرة القدرة شملهم الصغر فلم يصح منهم كبر، ولا شرع لهم تكبر، فلم يكن للخلق منهم حقيقة حظ ولا لبس حق، فاختص بهذا الاسم لاستيلائه على الظواهر بإظهار ما لهم من الكبر لعدم الحاجة إلى شيء وبإلجاء غيره إلى الاحتياج إليه والإيقاع بجبابرتهم وإذلالهم وغير ذلك من الأمور المزعجة المرهبة من غير مبالاة بشيء كما اختص بالجبار لاستيلائه على البواطن.ولما تقرر بما ذكر من مظاهر عظمته استيلاؤه على الظواهر والبواطن باللطف والعنف، أنتج ذلك تعاليه عن شوب نقص لاسيما بالشرك فقال سبحانه: {سبحان الله} أي تنزه الملك الأعلى الذي اختص بجميع صفات الكمال تنزهًا لا تدرك العقول منه أكثر من أنه علا عن أوصاف الخلق فلا يدانيه شيء من نقص {عما يشركون} أي من هذه المخلوقات من الأصنام وغيرهما مما في الأرض أو في السماء من كبير وصغير، وجليل وحقير.
|